[size=24]
د فعل الحكومة: العصا والجزرة
التمييز الطائفي كان وراء إنتفاضة محرم 1400هـ
في عام 1979 حدثت إنعطافة في تاريخ المواطنين الشيعة وعلاقتهم بالسلطة السعودية الحاكمة. ففي نوفمبر من ذلك العام ـ الأول من محرم 1400هـ ـ قام السلفيّون الوهابيون بإقتحام المسجد الحرام، فتسلّطت الأضواء على الشيعة بإعتبارهم عنصر الإنشقاق والاضطراب السياسي المعارض لهيمنة الأسرة السعودية المالكة وسياساتها، وتوقّعوا أن من قام بالعملية هم من العناصر الشيعية المتأثرة بالثورة الإسلامية الإيرانية التي حققت للتو إنتصارها على الشاه، ففي اليوم الأول لعملية إقتحام المسجد الحرام، قال ناطق بأسم الخارجية الأميركي "إن المجموعة لم تعرف هويتها وأهدافها، وقد تكون من المذهب الشيعي ".. وحاول الأمير فهد ـ ولي العهد يومئذ، والذي كان على رأس وفد المملكة في تونس لحضور إجتماع القمة العربي ـ حاول أن يوحي بأن الشيعة في المملكة هم مصدر المعارضة وحدهم، وأن المقتحمين للمسجد ليسوا من دعاة المذهب الرسمي، اذ أن الإعتراف بتلك الحقيقة كان يعني أشياء كثيرة لم يرد ولي العهد أن يدخل نفسه في متاهاتها. أمر ولي العهد أحد أعضاء الوفد السعودي بأن يصرح "أن الأذان قد أدّي على الطريقة الشيعية"[1] ، أي أن الذين قاموا بالعملية هم من الشيعة السعوديين الذين لم تكن الحكومة تثق بهم، وقال مصدر سعودي في يوم الحادث 21/11/1979 بأن "المسلحين الذين هاجموا البيت الحرام ينتمون إلى زمرة خارجة عن الدين الإسلامي، منشقة عن الشيعة"[2] .. واستمر الحال هكذا لبضعة أيام إلى أن إعترفت الحكومة السعودية بأن المقتحمين لم يكونوا من الشيعة وإنما ينتمون الى الوهابيين الذين بنوا كيان المملكة السياسي الحديث. قالت اللوموند "صرحت لنا عدّة شخصيات مقربة من الحكام السعوديين، أن عملية مكة لم تطبخ من قبل أيد أجنبية أو من قبل الشيعة، بل من قبل سعوديين من السنّة، وأنها كانت موجّهة فعلاً ضد الحكام الوهابيين"[3] .
كانت التوقعات الغربية تتوقع أن يقوم الشيعة بعمل ما، لأنهم الفئة المسحوقة التي إستردت أنفاسها، واستجمعت قواها وشجاعتها بإنتصار الثورة الإسلامية في ايران، ولأنها الفئة الأكثر تمرّساً في المعارضة السياسية، وفي النهاية لم تخب تلك التوقعات، فبعد مرور ستة أيام على حادثة إقتحام الحرم المكي بقيادة جهيمان بن سيف العتيبي، بدأ المواطنون الشيعة في القطيف أولاً ثم في الاحساء بمظاهراتهم السياسية التي شاركت فيها النساء جنباً إلى جنب الرجال، والمنددّة بسياسة التمييز الطائفي، فما كان من الحكومة إلاّ أن أرسلت جنود الحرس الوطني قدّر عددهم بين 12 ـ 20 ألف جندي، لقمع المتظاهرين، فحدثت صدامات عديدة أحرقت على أثرها العديد من السيارات، وأضرم المتظاهرون النار في الإطارات، وهاجموا البنك السعودي البريطاني في القطيف.
واستخدمت الحكومة في صدامها مع الأهالي الهراوات والغازات المسّيلة للدموع، والأسلحة الأوتوماتيكية، وحامت الطائرات المروحية وهي تقذف برصاصها المتظاهرين، فسقط عدد من الشهداء، بعضهم كان في منازلهم، في حين أمر ولي العهد ـ الأمير فهد يومئذ ـ بإستخدام مدافع الميدان إن لم يستطع الحرس الوطني وقوات البحرية وعدد من جنود القوات الجويّة السيطرة على الأوضاع. ولاحظ وليم كوانت ـ مستشار الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي ـ لاحظ في كتابه «السعودية في الثمانينات» "أن الحرس الوطين لم يكن متزناً في إستخدامه للقوة".
كانت حصيلة الإنتفاضة نحو خمسة وعشرين شهيداً من الأهالي، ونحو عشرة قتلى من الجنود، كما جرح بالرصاص أكثر من مائة متظاهر، واعتقلت السلطة ما يقرب من ألف ومائتين من المشاركين في الأحداث[4] .
لقد عمّقت الإنتفاضة الأخيرة الهوّة بين النظام السعودي وبين المواطنين الشيعة، إلاّ انها في نفس الوقت أعطت روحاً ووعياً جديدين للشيعة، وهيأت جيلاً شاباً متحمّساً في الدفاع عن نفسه وحقوقه إلى أبعد الحدود. لم تعد الحكومة السعودية ـ منذ ذلك الحدث التاريخي ـ ذلك البعبع المخيف للناس، ولم يكن بمقدورها تجاهل نتائج ضغطها على المواطنين الشيعة، كما لم يكن بإستطاعتها إخضاعهم بالقهر والعنف.. وقد أثبتت السنوات الماضية أن الإعتقالات والإعدامات في السجون، لم تفت في عضد المواطنين، بل بقيت المعارضة متجذّرة تغذّيها سياسات الأمراء الخرقاء، التي حوّلت معظم المواطنين الشيعة إلى أعداء لها. ومن نتائج الإنتفاضة أنها أبرزت العديد من القيادات السياسيّة والإجتماعية الشيعية، التي سيكون لها بلا شك دوراً هاماً في تحديد مستقبل الطائفة الشيعية في المملكة ودورها المستقبلي.
يرى كثير من المحللين أن الحرمان الاقتصادي والاضطهاد العقائدي كانا المفجّر الأساس لإنتفاضة الشيعة الأخيرة، وان تجاهل الحكومة المركزية لمطالب الشيعة ومعاناتهم، ولّد إمتعاضاً شديداً كان لا بدّ أن ينفجّر ويلقي بآثاره على الأوضاع الأمنية، حيث عدّت إنتفاضة الشيعة "أخطر معارضة متكرّرة واجهها آل سعود منذ ما قبل عهد النفط"[5] .
يقول أحد الكتاب الأجانب: "كان الوهابيون يمارسون تمييزاً يومياً مسيئاً تجاه الأقليّة الشيعية، وهو ما جعل الشيعة يشعرون وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية.. وكان شعور الشيعة بالظلم يزداد وضوحاً وجلاء كل عام مع بداية شهر محرم. لقد منع آل سعود على الدوام ممارسة هذه الطقوس علناً، لكن الشيعة قرروا في نوفمبر 1979 الخروج إلى الشوارع، إلاّ أنهم أخطأوا الحساب بشكل فادح، فقد إنقض الحرس الوطني عليهم بعنف وحشي، كما أن الأمير أحمد ـ نائب وزير الداخلية ـ طار إلى الظهران لوضع برنامج قاس ومشدّد للإعتقال والإستجواب.. وما أن حلّ شهر ديسمبر 1979 إلاّ والقطيف يحكمها الحرس الوطني وحواجزه على الطرق، وامتلأ سجن الهفوف بالمعتقلين، وعادت المنطقة الشرقية إلى هدوئها مرّة أخرى"[6] .
ويشير عدد من المحللين إلى أن الجيل الشبابي الشيعي هو الذي أشعل إنتفاضة المنطقة الشرقية، ولهذا دلالته الهامّة، حيث أن هذا الجيل يشكّل أكثريّة الشيعة، ويتمتع بطموحات كبيرة، وهو أكثر تعرّضاً لضغط التفاوت بين الشيعة وبقيّة المواطنين، ولذا فهو يشعر بإستياء شديد.. وإن "التمييز الأثني ضد الشيعة تظافر مع الإهمال الحكومي في تقديم الخدمات وتأسيس الإنشاءات في مناطق الشيعة..ورغم إيجابيات زيارة الملك خالد لمناطق الشيعة أواخر 1980 الآنية، إلاّ انها لا يمكن أن تنفي سنوات الإهمال". إن إتجاه الجيل الشبابي الشيعي هو الذي يحددّ أبعاد المستقبل، وإذا لم تقم الحكومة بإرضاء هذا الجيل، فإن إحتمالات العنف كامنة، ولا يمكن تقديرها[7] .
جاءت الإنتفاضة بعد عقود من الإحباط، لتعبّر عن ذلك الإضطهاد بشكل عام وعلني..لم تكن القلاقل التي شهدتها مناطق الشيعة بسبب التذمر من عدم إقامتهم إحتفالات عاشوراء، بل من معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية في بلدهم، ومن التفاوت الاجتماعي والاقتصادي[8] .
واعتبر عضيد دويشة أن "مصدر الشؤم الأكبر للنظام الحاكم، هو الإضطرابات التي وقعت بين السكان ذوي الأغلبية الشيعية في المنطقة الشرقية في شهر نوفمبر 1979"، وأضاف بان العنصر الشيعي بين السكان أصبح أكثر قلقاً وإضطراباً، لأن هذا العنصر بقي متخلّفاً عن بقية السكان سياسياً وإقتصادياً، وهو يرى بأن إزالة المظالم "ستقلل بالتدريج من أي ميل لخلق المشاكل وعدم الاستقرار". وأشار إلى أن احتمالات الإنفجار الشعبي في المستقبل ستواجه كالمعتاد من قبل النظام "بخليط من الإجراءات الإصلاحية والقمعية الفاشية"[9] . من جهة أخرى وليم كوانت "أن اضطرابات القطيف كانت أكثر إخافة للعائلة المالكة، وأن سببها معاملة الشيعة واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، وأنهم يركّزون في نضالهم ـ الذي توقّع له أن يستمر ـ على الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي".
وأشار فاسييليف إلى تململ الشيعة وإنتفاضتهم ضد الحكم السعودي، وقال أنها أخطر من إنتفاضة مكة لأن الشيعة يقطنون أهم منطقة إستراتيجية في البلاد "وهم أكثر وعياً من السنّة المنتفضين في مكة، فالشيعة أصحبوا عمالاً قبل بضعة عقود، وهم الذين أسّسوا نقابات سريّة وتزعّموا المظاهرات والإضرابات السياسية، وخاصة تلك المناهضة للأميركيين، وتعرّض الشيعة إلى اضطهاد مزدوج بسبب إنتمائهم إلى تيّار يعتبره حكّام الرياض زندقة"[10] .
باحث غربي آخر تطرّق إلى وضع الشيعة والى المنعطف التاريخي الذي سلكوه بإنتفاضتهم عام 1979، فقال إن شرعية النظام السعودي كانت مهددة من طرف آخر من المملكة حيث بلغ الفوران ذروته في الثامن والعشرين من نوفمبر 1979، في أحداث العنف التي جرت في المنطقة الشرقية، وقال بأن احتجاجات الشيعة في الاحساء والقطيف البالغ عددهم أكثر من نصف مليون إنسان، تضاعفت منذ عام 1950 ضد الظلم وسياسة التفرقة الطائفية الممارسة بحقّهم، وقد شجّع إنتصار الثورة الإيرانية الشيعة على المطالبة بالمساواة.. في حين أن مكمن الخطر على النظام يستمد من كون نسبة كبيرة من العمال في حقول النفط يشغلها الشيعة، وان عدد الأخيرين كبير، ومن نفطهم تستمد المملكة ثراءها، وتالياً فإن عدم الهدوء في المنطقة الشرقية يشكل خطراً على النظام الحاكم.
وقال الباحث بان العلاقات بين السنّة والشيعة في المنطقة الشرقية كما في الكويت والبحرين حسنة، ولكن بعد قيام حركة الوهابيين الذين يعتبرون الشيعة أسوأ من الكفار، واجه الشيعة في الأحساء أحكام الإعدام بشكل دائم. "وبقي الشيعة كأقليّة مضطهدة بل محكوم عليها بالفناء، منذ إستيلاء الملك عبد العزيز على الأحساء عام 1913، وظلّت المؤسسة النجديّة ساحبة الثقة من الشيعة، كما إعتبرتهم ـ رغم إنجازاتهم ـ متخلّفين بل متأخرين عقلياً. إن شهادة الشيعة غير معتبرة في قانون المحاكم السعودية". ولاحظ مراسل أجنبي زار المنطقة الشرقية عام 1980 التفرقة بأبشع صورها، فقال : "التفرقة والاضطهاد الثقافي هو أبشع أنواع الاضطهاد الذي يواجهه الشيعة، فالأدب الشيعي ممنوع، والتاريخ الشيعي محظور تعليمه في المدارس المحليّة والجامعات، ومهنة التعليم التي تعتبر المجال الوحيد المسموح به للنساء مغلقة بوجه الشيعة الذين استثنوا من كل الخدمات إلاّ أقلها، كما أنهم ممنوعون من الخدمة في الجيش وقوى الأمن"[11] . لهذه الأمور يرى الباحث أن الشيعة قاموا بإنتفاضتهم، "ولا مجال للشك في أن الشيعة سيكونوا أول المؤيدين لأية معارضة وطنية متطرفة للنظام السعودي"[12] .
إنتهت أحداث محرم 1400هـ، وفرض حظر التجول، وأقيمت حواجز التفتيش في الطرقات، وطوقت المنطقة الشرقية بالآلاف من رجال الحرس الوطني.. وبدت الأوضاع تميل إلى الهدوء، وكما كان متوقعاً، فقد إستخدمت الحكومة أقصى ما لديها من قوة. ومع هذا لم تكن الحكومة تطمع بالهدوء المستمر، لقد تنبّهت بعد فوات الأوان أن الضغط المتزايد قد ولّد الإنفجار. وقبل أن تبدأ الدولة بمشروع إقتصادي لإرضاء السكان، اندلعت مظاهرات أخرى في منطقة القطيف في فبراير 1980، رغم الحضور الأمني المتضخم، وأعلنت منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية مسؤوليتها عن الأحداث. في تلك الأثناء زادت الحكومة من أعداد جنودها، مما دفع بأحد المسؤولين الأميركيين إلى وصف الحضور الأمني في المنطقة بأنه "هائل الحجم"، بل "وكبير بما يكفي للتعامل مع أية تظاهرة أو ظاهرة تمرّد مباشرة"[13] .
كانت هناك دلائل كثيرة على أن حركة التمرد والسخط لم تنته، وإن لم تبرز بشكل علني واضح، رغم أن بعض المظاهر توحي بذلك.. فقد صرح زائر إلى المنطقة الشرقية بأن الجدران القديمة في مدينة القطيف إمتلأت بالشعارات التي تندد بالنظام السعودي وتمتدح شهداء الإنتفاضة[14] ، الأمر الذي زاد من قلق الولايات المتحدة إلى حدّ أمرت معه دبلوماسييها في الظهران بأن يجروا مسحاً إستخبارياً عن الشيعة، وعندما قرّر هؤلاء أنه ليس هناك من دليل قوى على وجود تهديد للحكم السعودي، أُمروا بأن يعاودوا البحث مرة أخرى[15] .
وكانت الحكومة السعودية ـ وبالاتفاق مع المخابرات الأميركية ـ قد إستأجرت عدداً من الباحثين الإجتماعيين والسياسيين من أساتذة الجامعات الأميركية ، للقدوم إلى القطيف وإجراء بحوث حول أوضاع الشيعة.. وقد قدم هؤلاء فعلاً إلى القطيف في بدايات عام 1980م، واستقروا فيها بضعة أسابيع، وخرجوا بنتيجة مفادها أن الاضطرابات ستتكرر، ونصح التقرير الذي قدمه الباحثون إلى الحكومة السعودية، بأن تعتمد خطة لإصلاح أوضاع الشيعة الاقتصادية والخدماتية، وان تخفف من قبضة القمع لتليين مواقف من أسموهم بـ "المتطرفين".
نفّذت الحكومة السعودية سياسة "الجزرة" بعد أن إستخدمت سياسة القمع بتوسّع كبير.. فبعد إنتهاء مظاهرات فبراير 1980 بدأت الحكومة بمشروعها، فزار الأمير أحمد نائب وزير الداخلية موقع الاضطرابات، والتقى بعدد من وجهاء الشيعة، واعترف بان الشيعة قد أهملوا، وان مناطقهم لم تنل حظها من الخدمات والمشاريع، كما اعترف بان الشيعة قد تعرضوا للإساءة في المعاملة، ووعد أحمد بتغييرات جذرية وتحسينات إذا ما تعاون الشيعة مع الحكومة لتحسين أوضاعهم، ولكنه حذّر بأن قبضة الدولة لم تتراخى بعد، وستضرب كل العابثين بالأمن بقبضة حديدية[16] .
في مطلع محرم 1401هـ، أطلقت السلطات سراح أكثر من 800 معتقل سياسي، خوفاً من تكرار تجارب محرم الماضي، وفي منتصف الشهر زار الملك خالد المنطقة الشرقية، والتقى بوجهاء الشيعة في القطيف، وأعلنت وسائل الإعلام بان الدولة خصصت نحو مليار ريال للمشاريع الخدماتية في القطيف تشرف عليها لجنة خاصة برئاسة ولي العهد ـ الملك فهد لاحقاً. وفعلاً تحسّن وضع الخدمات في المناطق الشيعية، لكن ذلك لم يرضهم بشكل كاف، أولاً لأنهم دفعوا ثمناً باهظاً: قتلى واعتقالات وجرحى.. وثانياً، لإن مطالبهم تطورت خلال العقود السابقة، خاصة وأن المطالب القديمة لم تعد ترض الأكثرية الشيعية، وثالثاً، لأن تطور الخدمات كان جزئياً، بينما لم تحل الدولة مسألة تعاملها مع الشيعة كمواطنين يتساوون في الحقوق مع غيرهم، كما لم تقدم أي تنازل لمواطنيها في مجال حرياتهم الدينية. وإضافة إلى هذا كان من المستحيل أن يؤدي الإصلاح الآني للخدمات في المناطق الشيعية، بعد عقود طويلة من الحرمان والمعاناة، إلى إشعار الشيعة بالرضا، خاصة وان الحكومة عادت إلى نهجها القديم بعد أقل من سنة "فسياسة التفرقة الطائفية ضد الشيعة لم تقتلع فكرة أن الدولة مقصرة بحقهم من أذهانهم، ولا يزال الشيعة عموماً دون مستوى الوسط في المجالين السياسي والاقتصادي"[17] .
من كل ما جرى من أحداث، إكتشف المواطنون الشيعة مسألة هامة، وهي أن حقوقهم لن ينالوها إلاّ بالمزيد من العمل المعارض، وتقديم المزيد من التضحيات، وكما نالوا بعض حقوقهم بعد إنتفاضتهم الدامية، فإن تحصيل الحقوق الأخرى، ودوام إستمرار النظام في مراعاة حقوقهم المدنية، مرهون بمدى فاعليتهم السياسية ومدى إستعدادهم للتضحية.
تراجعت الحكومة عن سياسة «الجزرة» حين رأت أنها لم تحقق الكثير مما ترجوه، فتصاعدت حدّة القمع والإعتقالات والتي طالت الآلاف من المواطنين، ورداً على تصعيد الحكومة القمعي، برزت عام 1987 تنظيمات عنيفة في الوسط الشيعي، لا ترى في المعارضة السياسية السلمية وترقيع النظام حلاً صحيحاً، كما لا ترى إمكانية تحقيق المطالب الجزئية بعد تجربة إستمرت أكثر من 75 عاماً.. ورأت تلك التنظيمات أن الحل يكمن في "إزالة" النظام القائم من الوجود، وبنفس الوسيلة التي يستخدمها في تعزيز وجوده، وهي العنف والقوة.. وقد قام أحد تلك التنظيمات بعمليات تفجير صغيرة في مناطق نفطية عام 1987م، كانت خسائرها المادية ضئيلة للغاية.
وكعادة الحكومة، التي لاترى حلاً للمشاكل، إلاّ من خلال "السيف والكرباج"، فإنها عمدت إلى إعدام أربعة من المتهمين في تلك الأعمال، وقد جرى إعدامهم بشكل علني في مدينة الدمام في الحادي والثلاثين من أكتوبر 1988، كما إعتقلت عشرات آخرين وجهت لهم تهمة التحريض.
وتلت تلك الإعتقالات إجراءات إنتقامية عامة ضد المواطنين الشيعة شملت مجالات التوظيف الحكومي على مختلف مستوياته، والتعليم، والقضاء، مترافقاً مع حملة إعلامية طائفية لم تر البلاد مثيلاُ لها من قبل. ومنذ ذلك الحين، يهيمن التوتر الشديد على المناطق الشيعية، وكأنها تعيش مخاضاً جديداً قد يسفر عنه تصعيد مقابل في حدة الصراع مع الحكومة.
size]